الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
الحزء الخامس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} قوله عزّ وجلّ {يا أيها الناس اتقوا ربكم} يعني احذروا عقابة واعملوا بطاعته {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} الزلزلة شدة الحركة على الحال الهائلة ووصفها بالعظم ولا شيء أعظم مما عظمه الله تعالى. قيل: هي من أشراط الساعة قبل قيامها. وقال ابن عباس: زلزلة الساعة قيامها فتكون معها {يوم ترونها} أي الساعة وقيل الزلزلة {تذهل} قال ابن عباس تشغل وقيل تنسي {كل مرضعة عما أرضعت} أي كل امرأة معها ولد ترضعه {وتضع كل ذات حمل حملها} أي تسقط من هول ذلك اليوم كل حامل حملها قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها بغير تمام. فعلى هذا القول تكون الزلزلة في الدنيا لأن بعد البعث لا يكون حبل ومن قال تكون الزلزلة في القيامة قال هذا على وجه تعظيم الأمر وتهويله على حقيقته كما تقول أصابنا أمر يشيب فيه الوليد تريد به شدته {وترى الناس سكارى} على التشبيه {وما هم بسكارى} على التحقيق ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وأزال تمييزهم وقيل سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب {ولكن عذاب شديد} (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك». زاد في رواية «والخير في يديك فينادى بصوت إن الله تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعث النار قال رب وما بعث النار قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون فحينئذٍ تضع الحوامل، ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم» زاد في رواية قالوا يا رسول الله أينا ذلك الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود وفي رواية كالرقمة في ذراع الحمار وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة. فكبّرنا ثم قال: ثلث أهل الجنة فكبّرنا ثم قال شطر أهل الجنة فكبّرنا» لفظ البخاري. وفي حديث عمران بن حصين وغيره أن هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بني المصطلق ليلاً فنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فحثوا المطى حتى كانوا حول رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليهم فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا والناس من بين باكٍ وجالس متفكر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي يوم ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعث النار» وذكر نحو حديث أبي سعيد وزاد فيه ثم قال «يدخل من أمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب فقال عمر: سبعون ألفاً؟ قال: نعم قال ومع كل واحد سبعون ألفاً».
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} قوله عزّ وجلّ: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدل وكان يقول للملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث وإحياء من صار تراباً {ويتبع} يعني في جداله في الله بغير علم {كل شيطان مريد} يعني المتمرد والمستمر في الشر وفيه جهان أحدهما: أنهم شياطين الإنس وهم رؤساء الكفر الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني أنه إبليس وجنوده {كتب عليه} يعني قضى على الشيطان {أنه من تولاه} يعني اتبعه {فإنه} يعني الشيطان {يضله} يعني يضل من تولاه عن طريق الجنة {ويهديه إلى عذاب السعير} وفي الآية زجر عن اتباعه والمعنى كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال ثم ألزم الحجة منكري البعث فقال {يا آيها الناس إن كنتم في ريب} يعني شك {من البعث} يعني بعد الموت {فإنّا خلقناكم من تراب} يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل {ثم من نطفة} يعني ذريته من المني وأصلها الماء القليل {ثم من علقة} يعني من دم جامد غليظ وذلك أنّ النطفة تصير دماً غليظاً {ثم من مضغة} وهو لحمة قليلة قدر ما يمضغ {مخلقة وغير مخلقة}. قال ابن عباس: أي تامة الخلق وغير تامة الخلق وقيل مصورة وغير مصورة وهو السقط. وقيل: المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط فكأنه سبحانه وتعالى قسم المضغة إلى قسمين أحدهما تام الصورة والحواس والتخطيط، والقسم الثاني هو الناقص عن هذه الأحوال كلها. وروي عن علقمة عن ابن مسعود موقوفاً عليه قال: إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال: أي رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قال غير مخلقة قذفها في الرحم دماً ولم تكن نسمة وإن قال مخلقة قال الملك: إي رب أذكر أم أثنى شقي أم سعيد ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض يموت؟ فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوَ الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه بعمل أهل الجنة فيدخلها» وقوله تعالى {لنبين لكم} أي كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة وقيل: لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة وقيل لنبين لكم أنّ تغير المضغة إلى الخلقة هو اختيار الفاعل المختار فإنّ القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزاً عن الإعادة {ونقر في الأرحام ما نشاء} أي لا تسقطه ولا تمجه {إلى أجل مسمّى} أي وقت خروجه من الرحم تام الخلق {ثم نخرجكم} أي وقت الولادة من بطون أمهاتكم {طفلاً} أي صغاراً وإنّما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس {ثم لتبلغوا أشدكم} أي كمال القوة والعقل والتمييز {ومنكم من يتوفى} أي قبل بلوغ الكبر {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي الهرم والخوف {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} أي يبلغ من السن ما يتغير به عقله فلا يعقل شيئاً فصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية سخيف العقل قليل الفهم ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال تعالى {وترى الأرض هامدة} أي يابسة لا نبات فيها {فإذا أنزلنا عليها الماء} يعني المطر {اهتزت} أي تحركت بالنبات {وربت} أي ارتفعت وذلك أنّ الأرض ترتفع بالنبات {وأنبتت} هو مجاز لأن الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً {من كل زوج بهيج} أي من كل صنف حسن نضير والبهيج هو المبهج وهو الشيء المشرق الجميل ثم إنّ الله تعالى لمّا ذكر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} فقال تعالى: {ذلك} أي ذكرنا ذلك لتعلموا {بأن الله هو الحق} وإن هذه الأشياء دالة على وجود الصانع {وأنّه يحيي الموتى} أي إنه إذا لم يستبعد منه إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات {وأنه على كل شيء قدير} أي من كان كذلك كان قادراً على جميع الممكنات {وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور} أي ما ذكر من الدلائل لتعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها وأنّها حق وأنّ البعث بعد الموت حق قوله تعالى {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} يعني النضر بن الحرث {ولا هدى} اي ليس معه من الله بيان ولا رشاد {ولا كتاب منير} أي ولا كتاب من الله له نور {ثاني عطفه} أي لاوي جنبه وعنقه متبختراً لتكبّره معرضاً عما يدعى إليه من الحق تكبّراً {ليضل عن سبيل الله} أي عن دين الله {له في الدنيا خزي} أي عذاب وهوان وهو أنه قتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك} أي يقال له ذلك {بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} أي فيعذبهم بغير ذنب والله تعالى على أي وجه أراد يتصرف في عبده فحكمه عدل وهو غير ظالم. قوله عزّ وجلّ {ومن الناس من يعبد الله على حرف} الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهراً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله، قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيراً واطمأن له وإن صابه مرض وولدت امرأته جارية ولم تلد فرسه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين إلاّ شراً فينقلب عن دينه وذلك هو الفتنة فأنزل الله تعالى {ومن الناس من يعبد الله على حرف} أي على شك وأصله من حرف الشيء وهو طرفه نحو حرف الجبل والحائظ الذي غير مستقر فقيل للشاك في الدين أنه يعبد الله على حرف لأنه لم يدخل فيه على الثبات والتمكن. وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم على سكينة وطمأنينة ولو عبدوا الله بالشكر على السراء والصبر على الضراء لم يكونوا على حرف وقيل هو المنافق يعبد الله بلسانه دون قبل {فإن أصابه خير} أي صحة في جسمه وسعة في معيشته {اطمأن به} أي رضي به وسكن إليه {وإن أصابته فتنة} أي بلاء في جسمه وضيق في معيشته {انقلب على وجهه} أي ارتد ورجع على عقبه إلى الوجه الذي كان عليه من الكفر {خسر الدنيا والآخرة} أي خسر في الدنيا العز والكرامة ولا يبقى دمه وماله مصوناً. وقيل خسر في الدنيا ما كان يؤمل والآخرة بذهاب الدين والخلود في النار {ذلك هو الخسران المبين} أي الظاهر {يدعو من دون الله ما لا يضره} إن عصاه ولم يعبده {وما لا ينفعه} أي إن أطاعه وعبده {ذلك هو الضلال البعيد} أي عن الحق والرشد {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} فإن قلت قد قال الله تعالى الآية الأولى {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه} وقال في هذه الآية {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} وهذا تناقض فكيف الجمع بينهما. قلت إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى قال في الآية الأولى: ما لا يضره أي لا يضره ترك عبادته وقوله لمن ضره أي ضر عبادته وقيل: إنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها وقيل: إن الله تعالى سفه الكافر حيث عبد جماداً لا يضر ولا ينفع وهو يعتقد بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع وقيل الآية في الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا وينفعوا وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أنّ الأوثان لا تضر ولا تنفع وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضاراً نافعاً، فلو كان المذكور في هذه الأوثان لزم التناقض فثبت أنهم الرؤساء بدليل قوله {لبئس المولى ولبئس العشير} أي الناصر والمصاحب المعاشر.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} قوله عزّ وجلّ: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إنّ الله يفعل ما يريد} أي بأوليائه وأهل طاعته من الكرامة وبأهل معصيته من الهوان قوله تعالى {من كان يظن أن لن ينصره الله} يعني نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم {في الدنيا} أي بإعلاء كلمته وإظهار دينه {والآخرة} أي وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه {فليمدد بسبب} أي بحبل {إلى السماء} أي سقف البيت على قول الأكثرين والمعنى ليشدّد حبلاً من سقف بيته فليختنق به حتى يموت {ثم ليقطع} أي الحبل بعد الاختناق وقيل ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً {فلينظر هل يذهبن كيده} أي صنيعه وحيلته {ما يغيظ} أي فليختنق غيظاً. وليس هذا على سبيل الحتم لأنه لا يمكنه القطع والنظر بعد الاختناق ولكنه كما يقال للحاسد مت غيظاً وقيل المراد بالسماء السماء المعروفة والمعنى من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه ويكيد في أمره ليقطعه عنه فليقطعه من أصله فإنّ أصله في السماء فليطلب سبباً يصل به إلى السماء، ثم ليقطع عن النبي صلى الله علي وسلم الوحي الذي يأتيه فينظر هل يتهيّأ له الوصول إلى السماء بحيلة وهل يقدر على إذهاب غيظه بهذا الفعل فإذا كان ذلك ممتنعاً كان غيظه عديم الفائدة. وفي الآية زجر للكافر عن الغيظ فيما لا فائدة فيه. روي أنّ الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان دعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود محالفة فقالوا: لا يمكننا أن نسلم لأنّنا نخاف أن لا ينصر محمد ولا يظهر أمره فتنقطع المحالفة بيننا وبين اليهود فلا يميرونا ولا يؤوونا وقيل النصر معناه الرزق. ومعنى الآية من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإنّ ذلك لا يجعله مرزوقاً تقول العرب من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله {وكذلك أنزلناه} يعني القرآن {آيات بينات وأن الله يهدي من يريد إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} يعني عبدة الأوثان وقيل الأديان ستة واحد لله وهو الإسلام وخمسة للشيطان وهو ما عدا الإسلام {إن الله يفصل بينهم} أي يحكم بينهم {يوم القيامة} وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد {إنّ الله على كل شيء شهيد} أي إنه علم بما يستحقه كل واحد منهم فلا يجزي في ذلك الفصل ظلم ولا حيف وقد تقدّم بسط الكلام على معنى هذه الآية في تفسير سورة البقرة. قوله عزّ وجلّ {ألم ترَ} أي لم تعلم وقيل ألم تر بقلبك {إنّ الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب} قيل سجود هذه الأشياء تحول ظلالهما وقيل ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه وقيل معنى سجودها الطاعة فإنه ما من جماد إلاّ وهو مطيع لله تعالى خاشع ومسبح له كما وصفهم بالخشية والتسبيح: وهذا مذهب أهل السنة وهو أنّ هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي خلقها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت بمطاوعتها أفعال المكلف وهو السجود الذي كل خضوع دونه. فإن قلت هذا التأويل يبطله قوله {وكثير من الناس} فإن السجود بالمعنى الذي ذكر عام في الناس كلهم فإسناده إلى كثير من الناس يكون تخصيصاً من غير فائدة. قلت المعنى الذي ذكرته وإن كان عاماً في حق الكل إلاّ أن بعضهم تمرد وتكبّر وترك السجود في الظاهر فهذا وإن كان ساجداً بذاته لكنه متمرد بظاهره وأمّا المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره أيضاً فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر وقيل معنى الآية {ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض} ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول: بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة. فإن قلت قوله من في السموات ومن في الأرض لفظ عموم فيدخل فيه الناس فلم قال وكثير من الناس. قلت لو اقتصر على ما تقدّم لأوهم أن كل الناس يسجدون طوعاً دون بعض وهم الذين قال فيهم {وكثير حق عليه العذاب} وهم الكفار أي حق عليهم العذاب بكفرهم وتركهم السجود ومع كفرهم وامتناعهم عن السجود تسجد ظلالهم لله عزّ وجلّ {ومن يهن الله فما له من مكرم} أي من يذله الله فلا يكرمه أحد {إنّ الله يفعل ما يشاء} أي يكرم الله بالسعادة من يشاء ويهين بالشقاوة من يشاء وقيل هو الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب. (فصل) هذه السجدة من عزائم سجود القرآن فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عند تلاوتها أو سماع تلاوتها.
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} قوله عزّ وجلّ: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} أي جادلوا في دينه وأمره واختلفوا في هذين الخصمين فروي عن قيس بن عبادة قال: سمعت أبا ذر يقسم قسماً أن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد من عتبة أخرجاه في الصحيحين (خ) عن علي بن أبي طالب قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة. قال قيس بن عبادة فيهم نزلت {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة. قال محمد بن إسحاق: خرج يوم بدر عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم فئة من الأنصار ثلاثة عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا رهط من الأنصار فقالوا حين انتسبوا أكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قم يا عبيدة بن الحارث ويا حمزة بن عبد المطلب ويا علي بن إبي طالب» فلما دنوا منهم قالوا: من أنتم فذكروا أنفسهم قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد ابن عتبة فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة وعلي الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما أثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل. فلما أتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست شهيداً يا رسول الله قال: بلى فقال عبيدة: لو كان أبو طالب حياً لعلم أنا أحق بما قال منه حيث يقول: ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل وقال ابن عباس: نزلت الآية في المسلمين وأهل الكتاب قال أهل الكتاب نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبينا قبل نبيكم وقال المسلمون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم حسداً فهذه خصومتهم في ربهم وقيل هم المؤمنون والكافرون من أي ملة كانوا فالمؤمنون خصم والكفار خصم وقيل الخصمان الجنة والنار (ق) عن أبي هريرة قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «تحاجت الجنة والنار فقال النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم» زاد في رواية «وغزاتهم فقال الله عزّ وجلّ للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنّما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله فتقول قط قط فهناك تمتلئ ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم ربك من خلقه أحداً. وأما الجنة فإنّ الله تعالى ينشئ لها خلقاً» وللبخاري «اختصمت الجنة والنار» وهذا القول ضعيف والأقوال الأولى أولى بالصحة لأن حمل الكلام على ظاهره أولى وقوله هذان كالإشارة إلى سبب تقدم ذكره وهو أهل الأديان الستة وأيضاً فإنه ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته وذكر مآل الخصمين فقال تعالى: {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} قال سعيد بن جبير: ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمي اشد حراً منه وسمي باسم الثياب. لأنها تحيط بهم كإحاطة الثياب وقيل يلبس أهل النار مقطعات من نار {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} أي الماء الحار الذي انتهت حرارته {يصهر به} أي يذاب بالحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم {ما في بطونهم} من الشحوم والأحشاء {والجلود} عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنّ الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ حتى يخلص إلى جوف أحدهم، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح {ولهم مقامع من حديد} يعني سياط من حديد وهي الجزر من الحديد. وفي الخبر «لو وقع مقمع من حديد في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم} يعني كلما حاولوا الخروج من النار لما يلحقهم من الغم والكرب الذي يأخذ بأنفاسهم {أعيدوا فيها} يعني ردوا إليها بالمقامع. قيل إن جهنم لتجيش بهم فتلقيهم إلى أعلاها فيريدون الخروج منها فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد فيهوون فيها سبعين خريفاً {وذوقوا عذاب الحريق} يعني تقول لهم الملائكة ذلك والحريق بمعنى المحرق فهذا وصف حال أحد الحصمين وهم الكفار وقال تعالى في وصف الخصم الآخر وهم المؤمنون {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} وهو الإبريسم الذي حرم لبسه على الرجال في الدنيا. عن معاوية هو جد بهز بن حكيم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار بعد» أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح (ق) عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن عليهم التيجان أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» قوله تعالى {وهدوا} من الهداية يعني أرشدوا {إلى الطيب من القول} قال ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل هو لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله وقيل إلى القرآن وقيل هو قول أهل الجنة {والحمد لله الذين صدقنا وعده} {وهدوا إلى صراط الحميد} يعني إلى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المحمود في أفعاله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} قوله عزّ وجلّ: {إنّ الذين كفروا} يعني بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {ويصدّون عن سبيل الله} أي بالمنع من الهجرة والجهاد والإسلام {والمسجد الحرام} يعني ويصدون عن المسجد الحرام {الذي جعلناه للناس} أي قبلة لصلاتهم ومنسكاً متعبداً {سواء العاكف} أي المقيم {فيه} قال بعضهم ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه {والبارد} أي الطارئ المنتاب إليه من غيره واختلفوا في معنى الآية فقيل سواء العاكف فيه والبادي في تعظيم حرامته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة قالوا: والمراد منه نفس المسجد الحرام ومعنى التسوية في تعظيم الكعبة وفي فضل الصلاة فيه والطواف به. وعن جبير بن مطعم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. وقيل: المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أنّ المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل من الآخر غير أنه لا يزعج أحد أحداً إذ كان قد سبق إلى منزلة وقول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوا: هما سواء في البيوت والمنازل قال عبد الرحمن بن سابط: كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم فعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها قالوا: إنّ أرض مكة لا تملك لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي فلما استويا ثبت أن سبيلها سبيل المساجد وإليه ذهب أبو حنيفة. قالوا: والمراد بالمسجد الحرام جميع الحرم وعلى القول الأول الأقرب إلى الصواب أنه يجوز بيه دور مكة وإجارتها وهو قول طاوس وعمرو بن دينار. وإليه ذهب الشافعي احتج الشافعي في ذلك قوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} أضاف الديار إلى مالكيها وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشترى عمر بن الخطاب دار السجن بأربعة آلاف درهم فدلت هذه النصوص على جواز بيعها وقوله تعالى {ومن يرد فيه} أي في المسجد الحرام {بإلحاد بظلم} أي يميل إلى الظلم قيل الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله. وقيل: هو كل شيء كان منهياً عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم. وقيل هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد وقطع شجر. وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقيل: احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلى بن أمية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه» أخرجه أبو داود وقال عبد الله بن مسعود في قوله ومن يرد فيه بإلحاد بظلم {نذقه من عذاب أليم} قال لو أنّ رجلاً همّ بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أنّ رجلاً همّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم. قال السدي: إلاّ أن يتوب. وروي عن عبد الله بن عمرو أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله. قوله تعالى {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} قال ابن عباس: جعلنا وقيل وطأنا وقيل بينا وإنما ذكر مكان البيت لأن الكعبة رفعت إلى السماء زمن الطوفان فلما أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام ببناء البيت لم يدر أي جهة يبني فبعث الله تعالى ريحاً خجوجاً فكنست له ما حول البيت عن الأساس وقيل بعث الله سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري فنبى عليه {أن لا تشرك بي شيئاً} أي عهدنا إلى إبراهيم وقلنا له: لا تشرك بي شيئاً {وطهر بيتي} أي من الشرك والأوثان والأقذار {للطائفين} أي الذي يطوفون بالبيت {والقائمين} أي المقيمين فيه {والركع السجود} أي المصلين. قوله عزّ وجلّ {وأذن} أي أعلم وناد، والأذان في اللغة الإعلام {في الناس} قال ابن عباس: أراد بالناس أهل القبلة {بالحج} فقال إبراهيم عليه السلام وما يبلغ صوتي فقال الله عليك الأذان وعلينا الإبلاغ فقام إبراهيم على المقام حتى صار كأطول الجبال وأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً وقال يا أيُّها الناس ألا إن ربكم قد بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إلى البيت فأجيبوا ربكم فأجابه كل من يحج من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك. قال ابن عباس: فأول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً وروي أنّ إبراهيم صعد أبا قبيس ونادى. وزعم الحسن أن المأمور بالتأذين هو محمد صلّى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع (م) عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيُّها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» {يأتوك رجالاً} أي مشاة على أرجلهم جمع راجل {وعلى كل ضامر} أي ركباناً على الإبل المهزولة من كثرة السير وبدأ المشاة تشريفاً لهم {يأتين} أي جماعة الإبل {من كل فج عميق} أي من كل طريق بعيد فمن أتى مكة حاجاً فكأنه قد أتى إبراهيم لأنه مجيب نداءه. قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم} قيل العفو المغفرة وقيل: التجارة وقال ابن عباس: الأسواق وقيل ما يرضى به الله من أمر الدنيا والآخرة {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} يعني عشر ذي الحجة في قول أكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص عليها من أجل وقت الحج في آخرها. وعن ابن عباس أنها أيام عرفة والنحر وأيام التشريق وقيل: إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني الهدايا والضحايا من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وفيه دليل على أنّ الأيام المعلومات يوم النحر وأيام التشريق لأنه التسمية على بهيمة الأنعام عند نحرها ونحر الهدايا يكون في هذه الأيام {فكلوا منها} أمر إباحة ليس بواجب وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً فأمر الله بمخالفتهم. واتفق العلماء على أن الهدى إذا كان تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة تطوعاً يجوز للمهدي أن يأكل منه وكذلك أضحية التطوع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع قال «وقدم علي ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة ونحر علي ما غبر وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم قوله ما غبر أي ما بقي قوله ببضعه أي بقطعة. واختلف العلماء في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقرآن والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل منه شيئاً قال الشافعي: لا يأكل منه شيئاً وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق. وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلاّ من فدية الأذى وجزاء الصيد والمنذور وعند إصحاب الرأي أنه يأكل من دم التمتع والقرآن ولا يأكل من واجب سواهما. وقوله تعالى {وأطعموا البائس الفقير} يعني الزمن الذي لا شيء له.
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)} وقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} أي ليزيلوا أدرانهم وأوساخهم والمراد منه الخروج عن الإحرام بالحلق وقص الشارب ونتف الإبط وقلم الأظفار والاستحداد ولبس الثياب والحج أشعث أغبر إذا لم يزل هذه الأوساخ. وقال ابن عمر وابن عباس: قضاء التفث مناسك الحج كلها {وليفوا نذورهم} أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي ليتموها بقضائها. وقيل المراد منه الوفاء بما نذر وهو على ظاهره وقيل: أراد به الخروج عمَا وجب عليه نذره أو لم ينذره {وليطوفوا بالبيت العتيق} أراد به طواف الواجب وهو طواف الإفاضة ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق. والطواف ثلاثة طواف القدوم وهو أنّ من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه (ق) عن عائشة: «إن أول شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حجّ أبو بكر وعمر مثله» (ق) عن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً» زاد في رواية «ثم يصلي ركعتين يعني بعد الطواف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة» ولفظ أبي داود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أو ما يقدم يسعى ثلاثة أشواط ويمشي أربعاً ثم يصلي سجدتين» والطواف الثاني هو طواف الإفاضة وذلك يوم النحر بعد الرمي والحلق (ق) عن عائشة قالت: «حاضت صفية ليلة النفر فقالت: ما أراني إلا حابستكم قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم عقرى حلقى أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفري» قوله عقرى وحلقى معناه عقرها الله أي أصابها بالعقر وبوجع في حلقها وقيل معناه مشئومة مؤذية ولم يرد به الدعاء عليها وإنّما هو شيء يجري على ألسنة العرب كقولهم: لا أم لك وتربت يمينك وفيه دليل على أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر. الثالث طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف سبعاً فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض فإنه يجوز لها تركه للحديث المتقدم ولما روى ابن عباس قال «أمر الناس أن يكون الطواف آخر عهدهم بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض» متفق عليه. الرمل سنة تختص بطواف القدوم ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع وقوله {بالبيت العتيق} قال ابن عباس وغيره سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط، وقيل لأنه أول بيت وضع للناس وقيل لأن الله أعتقه من الغرق فإنه رفع أيام الطوفان وقيل لأنه لم يملك. قوله عزّ وجلّ {ذلك} أي الأمر ذلك يعني ما ذكر من أعمال الحج {ومن يعظم حرمات الله} أي ما نهى الله عنه من معاصيه وتعظيمها ترك ملابستها وقيل: حرمات الله ما لا يحل انتهاكه وقيل الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقيل: الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها وقيل الحرمات هنا البيت الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والشهر الحرام ومعنى التعظيم العلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها {فهو خير له عند ربه} أي ثواب تعظيم الحرمات خير له عند الله في الآخرة {وأحلت لكم الأنعام} اي أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم {إلا ما يتلى عليكم} أي تحريمه وهو قوله في سورة المائدة {حرمت عليكم الميتة والدم} الآية {فاجتنبوا الرجس والأوثان} أي اتركوا عبادتها فإنها سبب الرجس وهو العذاب وقيل سمى الأوثان رجساً لأنّ عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات {واجتنبوا قول الزور} يعني الكذب والبهتان. وقال ابن عباس: هي شهادة الزور وروي عن أيمن بن خريم قال: «إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فقال أيها الناس عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» أخرجه الترمذي وقال قد اختلفوا في روايته ولا نعرف لأيمن سماعاً من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأخرجه أبو داود عن خريم بن فاتك بنحوه وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك.
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} قوله تعالى: {حنفاء لله} يعني مخلصين له {غير مشركين به} فدل ذلك على أن المكلف ينوي بما يؤتيه من العبادة الأخلاص لله بها لا غيره وقيل كانوا في الشرك يحجون ويحرمون البنات والأمهات والأخوات وكانوا حنفاء فنزلت {حنفاء لله غير مشركين به} أي حجوا لله مسلمين موحدين ومن أشرك لا يكون حنيفاً {ومن يشرك بالله فكأنّما خر} أي سقط {من السماء} إلى الأرض {فتخطفه الطير} يعني تسلبه وتذهب به {أو تهوي به الريح} يعني تميل وتذهب به {في مكان سحيق} يعني بعيد. ومعنى الآية أنّ من أشرك بالله بعيد من الحق والإيمان كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح فلا يصل إليه بحال وقيل شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء لأنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع حيث تسقط الريح فهو هالك لا محالة. إما باستلاب الطير لحمه أو بسقوطه في المكان السحيق. وقيل معنى الآية من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس وراءه إهلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير ففرقت أجزاءه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وقيل شبه الإيمان بالسماء في علوه والذي ترك الإيمان بالساقط من السماء والأهواء التي توزع أفكاره بالطير المختطفة والشياطين التي تطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة. قوله عزّ وجلّ {ذلك} يعني الذي ذكر من اجتناب الرجس وقول الزور {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} يعني تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب قال ابن عباس: شعائر الله البدن والهدي وأصلها من الإشعار، وهو العلامة التي يعرف بها أنها هدى وتعظيمها استسمانها واستحسانها وقيل شعائر الله أعلام دينه وتعظيمها من تقوى القلوب {لكم فيها} اي في البدن {منافع} قيل هي درها ونسلها وصوفها ووبرها وركوب ظهرها {إلى أجل مسمى} أي إلى أن يسميها ويوجبها هدياً فإذا فعل ذلك لم يكن له شيء من منافعها. وهو قول مجاهد وقتادة والضحّاك ورواية عن ابن عباس وقيل معناه لكم في الهدايا منافع بعد إيجابها وتسميتها هدايا بأن تركبوها وتشربوا من ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها وهو قول عطاء. واختلف العلماء في ركوب الهدي فقال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق: يجوز ركوبها والحمل عليها من غير ضرر بها لما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنه فقال: «اركبها فقال يا رسول الله إنّها بدنة فقال: اركبها ويلك في الثانية والثالثة» أخرجاه في الصحيحين. وكذلك يجوز له أن يشرب من لبنها بعد ما يفضل عن ري ولدها. وقال أصحاب الرأي: لا يركبها إلاّ أن يضطر إليه وقيل أراد بالشعائر المناسك ومشاهدة مكة لكم فيها منافع يعني بالتجارة والأسواق {إلى أجل مسمى} يعني إلى الخروج من مكة وقيل {لكم فيها منافع} يعني بالأجر والثواب في قضاء المناسك إلى انقضاء أيام الحج {ثم محلها إلى البيت العتيق} يعني منحرها عند البيت العتيق يريد به جميع أرض الحرم. وروي عن جابر في حديث حجة الوداع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «نحرت ها هنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم» ومن قال الشعائر المناسك قال معنى ثم محلها يعني محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق يطوفون به طواف الزيارة. قوله تعالى {ولكل أمة} يعني جماعة مؤمنة سلفت قبلكم {جعلنا منسكاً} قرئ بكسر السين يعني مذبحاً وهو موضع القربان منسكاً بفتح السين وهو إراقة الدم وذبح القرابين {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني عند ذبحها ونحرها سماها بهيمة لأنها لا تتكلم وقيد بالأنعام لأن ما سواها لا يجوز ذبحه في القرابين وإن جاز أكله. قوله عزّ وجلّ {فإلهكم إله واحد} يعني سموا على الذبح اسم الله وحده فإنّ إلهكم إله واحد {فله أسلموا} يعني أخلصوا وانقادوا وأطيعوا {وبشر المخبتين} قال ابن عباس: المتواضعين وقيل المطمئنين إلى الله وقيل الخاشعين الرقيقة قلوبهم وقيل هم الذي لا يظلمون وإذا ظلموا لا ينتصرون ثم وصفهم.
{الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} فقال تعالى: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} يعني خافت من عقاب الله فيظهر عليها الخشوع والتواضع لله تعالى {والصابرين على ما أصابهم} يعني من البلاء والمرض والمصائب ونحو ذلك مما كان من الله تعالى وما كان من الله تعالى وما كان من غير الله فله أن يصبر عليه وله أن ينتصر لنفسه {والمقيمي الصلاة} يعني في أوقاتها محافظة عليها {ومما رزقناهم ينفقون} يعني يتصدّقون. قوله تعالى {والبدن} جميع بدنه سميت بدنة لعظمها وضخامتها، يريد الإبل الصحاح الأجسام والبقر ولا تسمى الغنم بدنة لصغرها {جعلناها لكم من شعائر الله} يعني من أعلام دينه قيل لأنه تشعر وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي {لكم فيها خير} يعني نفع في الدنيا وثواب في العقبى {فاذكروا اسم الله عليها} يعني عند نحرها {صواف} يعني قياماً على ثلاث قوائم قد صفت رجليها ويدها اليمنى والأخرى معقولة فنحرها كذلك (ق) عن زياد بن جبير قال: «رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها قال ابعثها قياماً مقيدة سنّة محمد صلى الله عليه وسلم» {فإذا وجبت جنوبها} يعني سقطت بعد النحر ووقع جنبها على الأرض {فكلوا منها} أمر إباحة {وأطعموا القانع والمعتر} قيل القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل. والمعتر هو الذي يسأل وعن ابن عباس القانع هو الذي لا يسأل ولا يتعرض. وقيل: القانع هو الذي يسأل والمعتر هو الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل وقيل القانع المسكين والمعتر الذي ليس بمسكين ولا تكون له ذبيحة يجيء إلى القوم فيتعرض لهم لأجل لحمهم {كذلك} يعني مثل ما وصفنا من نحرها قياماً {سخرناها لكم} يعني لتتمكنوا من نحرها {لعلكم تشكرون} يعني إنعام الله عليكم {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحرو البدن لطخوا الكعبة بدمائها يزعمون أن ذلك قربة إلى الله تعالى فأنزل الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها} يعني لن ترفع إلى الله لحومها ولا دماؤها {ولكن يناله التقوى منكم} يعني ولكن ترفع إليه الأعمال الصالحة والإخلاص وهو ما أريد به وجه الله {كذلك سخرها لكم} يعني البدن {لتكبروا الله على ما هداكم} وأرشدكم لمعالم دينه ومناسك حجه وهو أن يقول الله: أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا {وبشر المحسنين} قال ابن عباس الموحدين. قوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم منهم وينصرهم عليهم {إنّ الله لا يحب كل خوان كفور} أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته. قال ابن عباس: خانوا الله فجعلوا منه شريكاً وكفروا نعمه. وقيل من تقرّب إلى الأصنام بذبيحته وسمى غير الله عليها فهو خوان كفور. قوله عزّ وجلّ {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} أي أذن الله لهم بالجهاد ليقاتلوا المشركين قال المفسرون كان مشركوا أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال. وقيل نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاعترضهم مشركو مكة فأذن الله لهم في قتال الكفار الذي يمنعون من الهجرة بأنهم ظلموا أي بسبب ما ظلموا واعتدوا عليهم بالإيذاء {وإن الله على نصرهم لقدير} فيه وعد من الله بنصر المؤمنين ثم وصفهم. فقال تعالى {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} يعني أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتعظيم والتمكين لا موجب الإخراج {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} أي بالجهاد وإقامة الحدود {لهدمت صوامع} هي معابد الرهبان المتخذة في الصحراء {وبيع} هي معابد النصارى في البلد وقيل الصوامع للصابئين والبيع للنصارى {وصلوات} هي كنائس اليهود ويسمونها بالعبرانية صلوتاً {ومساجد} يعني مساجد المسلمين {يذكر فيها اسم الله كثيراً} يعني في المساجد. ومعنى الآية ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شريعة كل نبي مكان صلواتهم فهدم في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد {ولينصرن الله من ينصره} أي ينصر دينه ونبيه {إنّ الله لقوي} أي على نصر من ينصر دينه {عزيز} أي لا يضام ولا يمنع مما يريده.
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)} قوله عزّ وجلّ: {الذين إن مكناهم في الأرض} أي نصرناهم على عدوهم تمكنوا من البلاد {أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} هذا وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم جميع هذه الأمة وقيل هم المهاجرون وهو الأصح لأنه قوله {الذين إن مكناهم} صفة لمن تقدم ذكرهم وهو قوله {الذين أخرجوا من ديارهم} وهم المهاجرون {ولله عاقبة الأمور} أي آخر أمور الخلق مصيرها إليه وذلك أنه يبطل فيها كل ملك سوى ملكه فتصير إليه بلا منازع. قوله تعالى {وإن يكذبوك} فيه تسلية وتعزية للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمعنى وإن كذبك قومك {فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى} فإن قلت لم قال وكذب ولم يقل وقوم موسى؟. قلت فيه وجهان أحدهما: أن موسى لم يكذبه قومه وهم بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهو القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكرت تكذيب كل قوم رسولهم قال وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره {فأمليت للكافرين} أي أمهلتهم وأخرت العقوبة عنهم {ثم أخذتهم} أي عاقبتهم {فكيف كان نكير} أي إنكاري عليهم ما فعلوا من التكذيب بالعذاب والهلاك يخوف به من خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبه. قوله عزّ وجلّ {فكأين من قرية أهلكتها} وقرئ أهلكناها على التعظيم {وهي ظالمة} أي وأهلها ظالمون {فهي خاوية} أي ساقطة {على عروشها} أي على سقوفها {وبئر معطلة} أي وكم من بئر معطلة أي متروكة مخلاة عن أهلها {وقصر مشيد} أي رفيع عال وقيل مجصص وقيل إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن. أما القصر فعلى قمة جبل والبئر في سفحه ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة فكفروا فأهلكهم الله وبقي البئر والقصر خاليين. وقيل إن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاضوراء وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح عليه السلام لما نجوا من العذاب أتوا إلى حضرموت ومعهم صالح فلما حضروه مات صالح فسمي المكان حضرموت. لذلك ولما مات صالح بنو حاضوراء وقعدوا على هذه البئر وأمروا عليهم رجلاً منهم فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا فارسل الله تعالى إليهم نبيا؟ً يقال له حنظلة بن صفوان. وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخرب قصرهم. قوله تعالى {أفلم يسيروا في الأرض} يعني كفار مكة فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية {فتكون لهم قلوب يعقلون بها} أي يعلمون بها {أو آذان يسمعون بها} يعني ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية فيعتبرون بها {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} المعنى أن عمى القلب هو الضار في أمر الدين لا عمى البصر لأن البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلوب النافع {ويستعجلونك بالعذاب} نزلت في النضر بن الحارث {ولن يخلف الله وعده} أي إنه أنجز ذلك يوم بدر {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} قال ابن عباس: يعني يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض. وقيل يوماً من أيام الآخرة يدل عليه ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود بزيادة فيه وأخرج الترمذي نحوه ومعنى الآية أنهم يستعجلون بالعذاب وإن يوماً من إيام عذابهم في الآخرة كألف سنة. وقيل إن يوماً من أيام العذاب في الثقل والاستطالة كألف سنة فكيف يستعجلونه وقيل معناه أن يوماً عنده وألف سنة في الإمهال سواء لأنه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوي في قدرته وقوع ما يستعجلونه من العذاب وتأخيره وهذا معنى قول ابن عباس.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} {وكأين من قرية أمليت لها} يعني أمهلتها {وهي ظالمة} يعني مع استمرار أهلها على الظلم {ثم أخذتها} يعني أنزلت بهم العذاب {وإلى المصير} يعني مصيرهم إلي في الآخرة ففيه وعيد وتهديد. قوله عزّ وجلّ {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} أمر رسول الله أن يديم لهم التخويف والإنذار وأن يقول لهم إنما بعثت لكم منذراً {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم} لما أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول {إنما أنا نذير مبين} أردف ذلك بأن أمره بوعد من آمن ووعيد من عصى فقال {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} يعن ستر لصغائر ذنوبهم وقيل للكبائر أيضاً مع التوبة ورزق كريم يعني لا ينقطع أبداً وقيل هو الجنة {والذين سعوا في آياتنا} يعني عملوا في إبطال آياتنا {معاجزين} يعني مثبطين الناس عن الإيمان وقرئ معاجزين يعني معاندين مشاقين وقيل معناه ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا فلا نقدر عليهم بزعمهم أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار {أولئك أصحاب الجحيم} وقوله تعالى {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} قال ابن عباس وغيره من المفسرين: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تولي قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به من الله تعالى تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم فكان يوماً في مجلس لقريش فأنزل الله عزّ وجلّ سورة والنجم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد غير الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم ويقولون قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فإن جعل لها محمد نصيباً فنحن معه فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله تعالى خوفاً كبيراً فأنزل الله تعالى هذه الآية يعزيه وكان به رحيماً وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود قريش وقيل قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا: هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن الذي كانوا يحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً فلم يدخل أحد منهم إلاّ بجوار أو مستخفياً. فلما نزلت هذه الآية قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله فغير ذلك وكان الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعا في فم كل مشرك فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم وقوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول} الرسول هو الذي يأتيه جبريل بالوحي عياناً {ولا نبي} النبي هو الذي تكون نبوته إلهاماً، أو مناماً فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً إلا إذا تمنى يعني أحب شيئاً واشتهاه وحدث به نفسه مما لم يؤمر به {ألقى الشيطان في أمنيته} يعني في مراده وقال ابن عباس: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ووجد إليه سبيلاً. والمعنى ما من نبي {إلا إذا تمنى} أن يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبي إلا ألقى الشيطان عليه ما يرضى قومه فينسخ الله ما يلقى الشيطان. وقال أكثر المفسرين معنى تمنى قرأ وتلا كتاب الله ألقى الشيطان في أمنيته يعني في تلاوته قال حسان في عثمان حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقة وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى} وقال تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وأخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرآ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافراً «. أخرجه البخاري ومسلم وصح في حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس». رواه البخاري فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره المفسرون عن ابن عباس في هذه القصة. وفقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جداً فهذا توهين هذه القصة الجواب الثاني: وهو من حيث المعنى هو أنّ الحجة قد قامت بالدليل الصحيح وإجماع الأمة على عصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة وهو تمنيه أن ينزل عليه مدح إليه غير الله أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه حتى نبهه جبريل عن ذلك فهذا كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم قال الله عزّ وجلّ {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقعطنا من الوتين} الآية الجواب الثالث: في تسليم وقوع هذه القصة وسبب سجود الكفار أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ يرتل القرآن ترتيلاً ويفصل الآي تفصيلاً كما صح عنه في قراءته فيحتمل أن الشيطان ترصد لتلك السكنات فدس فيها ما اختلقه من تلك الكلمات محاكياً لصوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمعه من دنا منه من الكفار فظنوها من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فسجدوا معه لسجوده فأما المسلمون فلم يقدح ذلك عندهم لتحققهم من حال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذم الأوثان وإنهم كانوا يحفظون السورة كما أولها الله عزّ وجلّ الجواب الرابع: في تحقيق تفسير الآية وقد تقدم أنّ التمني يكون حديث النفس وبمعنى التلاوة فعلى الأول: يكون معنى قوله {إلا إذا تمنى} أي خطر بباله وتمنى بقلبه بعض الأمور ولا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر فحصل السهو في الأفعال الظاهرة وعلى الثاني: وهو تفسير التمني بالتلاوة فيكون معنى قوله {إلا إذا تمنى} أي تلا وهو ما يقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم من السهو في إسقاط آية أو آيات أو كلمة أو نحو ذلك ولكنه لا يقر على هذا السهو بل ينبه عليه ويذكر به للوقت والحين كما صح في الحديث «لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها في سورة كذا» وحاصل هذا أن الغرض من هذه الآية أن الأنبياء والرسل وإن عصمهم الله عن الخطأ في العلم فلم يعصمهم من جواز السهو عليهم بل حالهم في ذلك كحال سائر البشر والله تعالى أعلم. قوله عزّ وجلّ {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} أي يبطله ويذهبه {ثم يحكم الله آياته} أي يثبتها {والله عليم حكيم} قوله عزّ وجلّ {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} أي محنة وبلية والله تعالى يمتحن عباده بما يشاء {للذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق {والقاسية قلوبهم} أي الجافية قلوبهم عن قبول الحق وهم المشركون {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} أي في خلاف شديد.
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)} {وليعلم الذي أوتوا العلم} أي التوحيد والقرآن والتصديق بنسخ الله ما يشاء {أنه الحق من ربك} أي الذي أحكم الله من آيات القرآن هو الحق من ربك {فيؤمنوا به} أي يعتقدوا أنه من الله عزّ وجلّ {فتخبت له قلوبهم} أي تسكن إليه {وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} أي إلى طريق قويم وهو الإسلام. قوله عزّ وجلّ {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} أي في شك من القرآن وقيل من الدين الذي هو صراط مستقيم {حتى تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة وقيل أراد بالساعة الموت {أو يأتيهم عذاب عقيم} أي عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل هو يوم بدر سمي عقيماً لأنه لم يكن في ذلك اليوم للكفار خير كالريح العقيم لا تأتي بخير وقيل لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه {الملك يومئذٍ} يعني يوم القيامة {لله} وحده من غير منازع ولا مشارك فيه {يحكم} اي يفصل {بينهم} ثم بين ذلك الحكم فقال تعالى {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين}. قوله تعالى {والذين هاجروا في سبيل الله} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله وطلب رضاه {ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً} أي لا ينقطع أبداً وهو رزق الجنة لأنه فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين {وإن الله لهو خير الرازقين} فإن قلت الرازق في الحقيقة هو الله عزّ وجلّ لا رازق للخلق غيره فكيف قال وإن الله لهو خير الرازقين. قلت قد يسمى غير الله رازقاً على المجاز كقوله رزق السلطان الجند أي أعطاهم أرزاقهم وإن الرزاق في الحقيقة هو الله تعالى وقيل لأنه الله تعالى يعطي الرزق ما لا يقدر عليه غيره.
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)} {ليدخلنهم مدخلاً يرضونه} يعني الجنة يكرمون به ولا ينالهم فيه مكروه {وإن الله لعليم} بنياتهم {حليم} بالعفو عنهم. قوله عزّ وجلّ {ذلك} أي الأمر ذلك الذي قصصنا عليك {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} يعني جازى الظالم بمثل ظلمه وقيل يعني قاتل المشركين كما قاتلوه {ثم بغى عليه} يعني ظلم بإخراجه من منزله يعني ما أتاه المشركون من البغي على المسلمين حتى أحوجوهم إلى مفارقة أوطانهم نزلت في قوم من المشركين أتوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا في المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم أن يكفوا عن القتال من أجل الشهر الحرام فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصرهم الله عليهم فذلك قوله تعالى {لينصرنه الله إن الله لعفو} يعني عن مساوي المؤمنين {غفور} يعني لذنوبهم {ذلك} النصر {بأن الله} القادر على ما يشاء فمن قدرته أنه {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} في معنى هذا الإيلاج قولان، أحدهما: أنه يجعل ظلمه الليل ما كان ضياء النهار وذلك بغيبوبة الشمس ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس. القول الثاني: هو ما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر من الساعات وذلك لايقدر عليه إلا الله تعالى {وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق} أي ذو الحق في قوله وفعله، ودينه حق وعبادته حق {وأن ما يدعون} يعني المشركين {من دونه هو الباطل} يعني الأصنام التي ليس عندها ضر ولا نفع {وأن الله هو العلي} أي العالي على كل شيء {الكبير} أي العظيم في قدرته وسلطانه. قوله عزّ وجلّ {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} يعني بالنبات {إن الله لطيف} يعني باستخراج النبات من الأرض رزقاً للعباد والحيوان {خبير} يعني بما في قلوب العباد إذا تأخر المطر عنهم {له ما في السموات وما في الأرض} يعني عبيداً وملكاً {وإن الله لهو الغني الحميد} يعني الغني عن عباده الحميد في أفعاله {ألم تر أنّ الله سخر لكم ما في الأرض} يعني الدواب التي تركب في البر {والفلك} أي وسخر لكم السفن {تجري في البحر بأمره} يعني سخر لها الماء والرياح ولولا ذلك ما جرت {ويمسك السماء أن تقع} أي لكيلا تسقط {على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم} يعني أنه أنعم بهذه النعم الجامعة بمنافع الدنيا والدين وقد بلغ الغاية في الإنعام والإحسان فهو إذن رؤوف رحيم بكم {وهو الذي أحياكم} أي أنشأكم ولم تكونوا شيئاً {ثم يميتكم} أي عند انقضاء آجالكم {ثم يحييكم} أي يوم البعث للثواب والعقاب {إن الإنسان لكفور} أي لجحود لنعم الله عزّ وجلّ. قوله تعالى {لكل أمة جعلنا منسكاً} قال ابن عباس شريعة {هم ناسكوه} هم عاملون بها وعنه أنه قال عيداً وقيل موضع قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة {فلا ينازعنك في الأمر} أي في أمر الذبائح نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما لكم تأكلون مما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون مما قتله الله؟ وقيل معناه لا تنازعهم أنت. قوله تعالى {وادع إلى ربك} أي إلى الإيمان به وإلى دينه {إنك لعلى هدى مستقيم} أي على دين واضح قويم {وإن جادلوك} يعني خاصموك في أمر الذبح وغيره {فقل الله أعلم بما تعملون} أي من التكذيب {الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} يعني فتعلمون حينئذٍ الحق من الباطل وقيل حكم يوم القيامة يتردّد بين جنة وثواب لمن قبل وبين نار وعقاب لمن رد وأبى. قوله عزّ وجلّ {ألم تعلم} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه الأمة {أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب} يعني في اللوح المحفوظ {إن ذلك} يعني علمه بجميعه {على الله يسير} أي هين وقيل: إن كتب الحوادث مع أنها من الغيب على الله يسير {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} يعني حجة ظاهرة من دليل سمعي {وما ليس لهم به علم} يعني أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهل لا عن علم ولا دليل عقلي {وما للظالمين} يعني المشركين {من نصير} يعني مانع يمنعهم من العذاب.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} يعني القرآن وصفه بذلك لأنه فيه بيان الأحكام والفصل بين الحلال والحرام {تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر} يعني الإنكار والكراهية يتبين ذلك في وجوههم {يكادون يسطون} يعني يقعون ويبسطون إليكم أيديهم بالسوء وقيل يبطشوه {بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي بمحمد وأصحابه من شدة الغيظ {قل} يعني قل لهم يا محمد {أفأنبئكم بشر من ذلكم} يعني بشر لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تستمعون {النار} يعني هي النار {وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير} قوله تعالى {يا أيها الناس ضرب مثل} فإن قلت الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلاً. قلت لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل كلام كان كذلك مثلاً. وقال في الكشاف قد سميت الصفة والقصة الرائقة المتلقاة بالاستحسان والاستغراب مثلاً تشبيهاً لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مسيرة عندهم مستحسنة مستغربة {فاستمعوا له} يعني تدبروه حق تدبره فإنّ الاستماع بلا تدبر وتعقل لا ينفع والمعنى جعل لي شبيه وشبه به الأوثان أي جعل المشركون الأصنام شركائي يعبدونها ثم بين حالها وصفتها فقال تعالى {إن الذين تدعون من دون الله} يعني الأصنام {لن يخلقوا ذباباً} يعني واحداً في صغره وضعفه وقلته لأنها لا تقدر على ذلك {ولو اجتمعوا له} يعني لخلقه، والمعنى أن هذه الأصنام لو اجتمعت لم يقدروا على خلق ذبابة على ضعفها وصغرها فكيف يليق بالعاقل جعلها معبوداً له {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} قال ابن عباس: كانوا يطلون الأصنام بالزعفران فإذا جف جاء الذباب فاستلبه منه. وقيل: كانوا يضعون الطعام بين أيدي الأصنام فيقع الذباب عليه ويأكل منه {ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب الذي على الصنم والمطلوب هو الصنم وقيل الطالب الصنم والمطلوب الذباب أي لو طلب الصنم أن يخلق الذباب لعجز عنه وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم {ما قدروا الله حق قدره} يعني ما عظموه حق عظمته وما عرفوه حق معرفته ولا وصفوه حق صفته حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه {إن الله لقوي عزيز} يعني غالب لا يقهر. قوله عزّ وجلّ {الله يصطفي من الملائكة} يعني يختار من الملائكة {رسلاً} جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وغيرهم {ومن الناس} يعني يختار الله من الناس رسلاً مثل إبراهيم وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء والرسل صلّى الله عليهم أجمعين. نزلت حين قال المشركون أأنزل عليه الذكر من بيننا فأخبر الله تعالى أن الاختيار إليه يختار من يشاء من عباده لرسالته {إن الله سميع} يعني بأقوالهم {بصير} يعني لأفعالهم لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى {يعلم ما بين أيديهم} قال ابن عباس: ما قدموا {وما خلفهم} يعني ما خلفوا وقيل يعلم ما عملوا ما هم عاملون وقيل يعلم ما بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم {وإلى الله ترجع الأمور} يعني في الآخرة. قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} يعني صلوا لأن الصلاة لا تكون إلا بالركوع والسجود {واعبدوا ربكم} يعني وحدوه وقيل أخلصوا له العبادة {وافعوا الخير} قال ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق وقيل فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله تعالى وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة وحسن القول غير ذلك من أعمال البر {لعلكم تفلحون} يعني لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة.
فصل: في حكم سجود التلاوة هنا لم يختلف العلماء في السجدة الأولى من هذه السورة واختلفوا في السجدة الثانية فروي عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وبه قال ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، يدل عليه ما روي عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله في الحج سجدتان قال: «نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» أخرجه الترمذي وأبو داود. وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين وقال: إن هذه السورة فضلت بسجدتين. أخرجه مالك في الموطأ وذهب قوم إلى أنّ في الحج سجدة واحدة وهي الأولى وليس هذه بسجدة وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبي حنيفة ومالك بدليل أنه قرن السجود بالركوع فدل ذلك أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة واختلف العلماء في عدة سجود التلاوة. فذهب الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة لكن الشافعي قال في الحج سجدتان وأسقط سجدة ص. وقال أبو حنيفة في الحج سجدة وأثبت سجدة ص وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه فعنده أن السجدات خمس عشرة سجدة. وذهب قوم إلى أن المفصل ليس فيه سجود يروى ذلك عن أبيّ بن كعب وابن عباس وبه قال مالك فعلى هذا يكون سجود القرآن إحدى عشرة سجدة يدل عليه ما روي عن أبي الدرداء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «في القرآن إحدى عشرة سجدة» أخرجه أبو داود وقال إسناده واه. ودليل من قال في القرآن خمس عشرة سجدة ما روي عن عمرو بن العاص قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل وهي سورة الحج سجدتان. أخرجه أبو داود وصح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقرأ وإذا السماء انشقت» أخرجه مسلم وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هو واجب.
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} قوله عزّ وجل: {وجاهدوا في الله حق جهاده} أي جاهدوا في سبيل الله أعداء الله ومعنى حق جهاده هو استفراغ الطاقة فيه قال ابن عباس: وعنه قال لا تخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد كما تجاهدون في سبيل الله لا تخافون لومة لائم وقيل معناه اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته قيل نسخها قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال أكثر المفسرين حق الجهاد أن يكون بنية صادقة خالصه لله ولتكون كلمة الله هي العليا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري وقيل مجاهدة النفس والهوى هو حق الجهاد وهو الجهاد الأكبر روي أنّ النبيّ صلى الله عليه سلم لما رجع من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ذكره البغوي بغير سند قيل أراد بالأصغر جهاد الكفار وبالأكبر جهاد النفس {هو اجتباكم} يعني اختاركم لدينه والاشتغال بخدمته وعبادته وطاعته فأي رتبة أعلى من هذا وأي سعادة فوق هذا {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ضيق وشدة وهو أن المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب إلا جعل الله له منه مخرّجاً بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بأنواع الكفارات من الأمراض والمصائب وغير ذلك فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد فيه سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب لمن وفق. وقيل: معناه رفع الضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا. وقيل: معناه الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة والفطر في السفر والتيمم عند عدم الماء وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعداً والفطر مع العجز بعذر المرض ونحو ذلك من الرخص التي رخص الله لعباده، قيل أعطى الله هذه الأمة خصلتين لم يعطهما أحداً غيرهم جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج. وقال ابن عباس: الحرج ما كان على بني إسرائيل من الآصار التي كانت عليهم وضعها الله عن هذه الأمة {ملة أبيكم إبراهيم} لأنها داخلة في ملة محمد صلّى الله عليه وسلم. فإن قلت لم يكن إبراهيم أباً للأمة كلها فكيف سماه أباً في قوله {ملة إبيكم إبراهيم}. قلت إن كان الخطاب للعرب فهو أبو العرب قاطبة وإن كان الخطاب للمسلمين فهو أبو المسلمين. والمعنى وجوب احترامه وحفظ حقه يجب كما يجب احترام الأب فهو كقوله {وأزواجه أمهاتهم} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما أنا لكم كالوالد» وفي قوله {هو سماكم المسلمين من قبل} قولان أحدهما: أن الكناية ترجع إلى الله تعالى يعني أن الله سماكم المسلمين في الكتب القديمة من قبل نزول القرآن القول الثاني: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني أنّ إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} فاستجاب الله دعاءه فينا {وفي هذا} أي وفي القرآن سماكم المسلمين {ليكون الرسول شهيداً عليكم} يوم القيامة أن قد بلغكم {وتكونو شهداء على الناس} أي تشهدون يوم القيامة على الأمم أن رسلهم قد بلغتهم {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله} يعني ثقوا به وتوكلوا عليه وقيل تمسكوا بدين الله. وقال ابن عباس: سلوا ربكم أن يعصمكم من كل ما يكره وقيل معناه ادعوا ربكم أن يثبتكم على دينه. وقيل: الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة {هو مولاكم} يعني وليكم وناصركم وحافظكم {فنعم المولى ونعم النصير} أي الناصر لكم والله تعالى أعلم.
|